-1-
تنحني هذه الرسوم والكلمات لحرف النون، فالنون وعاء كلمة إنسان (ا ن س ا ن). والإنسان تحتويه نونان، لذا كان الإنسان مثنى مذ كان. فكلمة إنسان تضمر المثنى وتعلن المفرد، لأنها تدلّ على الذكر والأنثى. فيها نستعيد المثنى الذي كان علامة سيد الشعراء وملك الغرباء. فأمروء القيس لم يقف ويستوقف ويخاطب المثنى في بداية معلقته، إلا ليعلن أن المثنى هو الأصل، وأن الإنسان مزدوج حتى حين يكون وحيداً. المثنى وعاء الروح وامتداده، لذا حار المجددون أمام ظاهرة المثنى وصعوباتها، فحاولوا إلغاءها، لكنهم فشلوا، إذ كيف يبدأ شعر العرب من دون "قفا نبك".
انتصرت دموع امرئ القيس لأن البكاء كان ممكناً، فحين يغتسل الشاعر بماء عينيه، تصير العين مرآة، فالعامة الذين أطلقواعلى النبع اسم عين الماء اكتشفوا سرّ العلاقة بين ماء الروح المصنوع من الدموع وماء الحياة المتفجر من باطن الأرض.
العين حرف ينتهي بالنون، وعلى خطى الخليل بن أحمد الذي أعلن العين أول الحروف، علينا أن نبدأ بكلمة تنتهي بالنون كي تكون بداية الكلمات والأسماء. يقترح علينا كمال بلاّطة أن نبدأ بفلسطين، "قد تتكسّرأو تتناثر أحرف " فلسطين" في أرض الشتات، بينما تتخندق الأحرف في أرض الحصار. وفي القلب العربي، تبقى" نون" فلسطين "نون" النور المبين".
من نون العين تنبثق نون البلاد، ومن العلاقة بين المرايا والينابيع تولد نون هذا الكائن الذي نكاد نضيّعه في زحمة الموت العربي والذي سُمي إنسانا كي لا ينسى.
والنون (ن و ن) كالإنسان حرف فيه نونان فهي مثنى النون كما أن الإنسان مثنى نصفيه، ولا يندغم المثنى إلا حين تصير النون سمكة أو حوتاً.
"روي عن ابن عباس أنّه قال: أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، فقال أي رب وما أكتب؟ فقال: القدر، قال: فكتب في ذلك اليوم ما هو كائن إلى قيام الساعة، ثم خلق النون ثم بسط الأرض عليهما، فاضطربت النون فمادت الأرض فخلق الجبال فأثبتها بها، ثم قرأ ابن عباس: "ن والقلم وما يسطّرون" سورة القلم الآية 1.
جاء في "لسان العرب" أن النون هي الحوت، وجمعها أنوان ونينان، وذو النون لقب يونس، سمي ذو النون لأن الله حبسه في جوف الحوت الذي التقمه. وفي كلمة يونس، نون تتوسط الواو والسين، كي تذكرنا بأن يونس خرج من جوف الحوت، كما خرج الناصري من عتمة القبر.
-2-
النون سيف، ويقال للسيف المعطوف طرفي الظُبة: ذو النونين.
والنونة: الكلمة من الصواب.
والنونة: النُقبة في ذقن الصبي.
والنونة: السمكة.
رحلة النون في "لسان العرب" تمتد على الصفحات التي خطها ابن منظور، وتتشكل كلوحة متعددة الألوان والظلال. النقطة التي تتوسطها تشبه العين، وحين يمتلك الحرف عينه فإن قدرته على الرؤية تصير بلا نهاية.
بالنون تنتهي كلمة فلسطين وبها تبدأ كلمة الناصرة. وبين الناصرة وفلسطين نور منسوج من نثار ضوء أجمل حكاية حب لم يجروء أحد على كتابتها.
يسوع الناصري، الذي يطلق عليه القرآن اسم عيسى بن مريم، ولد في الناصرة، والتقى مريماته على شواطئ بحر الجليل، وهناك مشى على صفحة الماء كي يكون النون التي تسبح في النور، وكي يشعّ نور الحب في نور الحكاية.
ولد في بيت لحم، وصنع خمرته من ماء قانا، ومضى إلى مصيره في القدس.
وكلمة نور ككلمة ناصرة تبدأ بالنون، وتمتد إلى أرض فلسطين التي تقدست بالضوء المجبول بدماء الضحايا.
-3-
والنون هي كلمة أنا (ا ن ا)التي تتوسط ألفين كي تشير الى المفرد، وهي نونان تحدّان الحاء في كلمة نحن (ن ح ن) فتنتقل بالمثنى الى الجمع، وهي نون النسوة ونون التوكيد ونون الحُسن ونون العيون.
النسيج النوني يمتد من سورة الرحمن التي احتفلت بالمثنّى: "الرحمان، علّم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان، الشمس والقمر بحسبان، والنجم والشجر يسجدان والسماء رفعها ووضع الميزان ألّا تطغوا في الميزان وأقيموا الميزان بالقسط ولا تُخسروا الميزان والأرض وضعها للأنام فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام والحَبُّ ذي العصف والريحان فبأي آلاء ربكما تُكذبان". (سورة الرحمن آية 1-6: )13
إلى نون السمكة التي كانت شعار النصارى، قبل أن يجعلوا من الصليب رمزاً للكلمة-الإنسان، وإشارة لقاء بين أفق الأرض واحتمالات السماء.
في النون ولد الشعر العربي على حافة البكاء، وفيها صنع مقاومو غزة ملحمة الأنفاق، فبنوا من نون النفق سفنهم الى شطآن الحلم.
-4-
حرف النون الذي أُعطي مجد فلسطين صار "عارنا" في الموصل، وبداية تطهير طائفي وعرقي في بلاد الرافدين.
كُتبت النون باللون الأحمر داخل دائرة حمراء وُضعت على حيطان منازل النصارى من كلدان وآشوريين في الموصل، تمهيداً لمصادرتها وطرد سكانها، من قبل عساكر "الدولة الإسلامية"، التي يُطلق عليها الناس في بلادنا اسم "داعش".
كانت جحافل "داعش" تجتاح سهل نينوى وتقتل وتذبح وتسبي، في الوقت عينه الذي كانت فيه جحافل الصهيونيين تقصف بيوت غزة على رؤوس سكانها.
غريب أمر التاريخ مع أبناء هذه البلاد التي كانت حضاراتها بداية التاريخ وبداية الكتابة.
مغول من هنا وفرنجة من هناك، والدم يسيل أنهاراً. لاجئون قدامى يتحولون إلى لاجئين جدد، هنا في فلسطين وهناك في الموصل وجبال سنجار.
العصافير التي بكت في جليل محمود درويش تلتقي بغرباء بدر شاكر السيّاب، الذين يصرخون كلمة عراق وكأنها صيحة استغاثة.
ودعاء "يا مريم" الذي صار عنوان رواية سنان انطون يتردد صداه في وسادة الأم الثكلى في "أرابيسك" انطون شمّاس، وأبناء وبنات مغارة "باب الشمس"، يتابعون ملحمة موتهم في غزة المهدمة، التي تقاوم بالغضب وباليأس الذي يصنع الأمل.
-5-
لم تبدأ المذبحة في الأمس، دماء الأيزيديين لم تجف من أثر المذابح التي استؤنفت مع الغزو الأميركي للعراق، وألم الصابئة الذي اختبأ في الفراتين اغتسل بماء الألم.
لم تبدأ المذبحة في غزة، فغزة التي تكتظ باللاجئين الذين ذاقوا الهول في يافا وقراها وفي بئر السبع ويبنة وغيرها من مدن جنوبي فلسطين ودساكرها، تعرف أنها تدفع اليوم ضريبة بؤس العالم العربي وانحطاطه.
التزامن المريب بين المذابح، هنا وهناك، يعلن أن العالم العربي يعيش محنته الكبرى. فلقد نجح الاستبداد بقمعه الوحشي وبراميله وحصده للمتظاهرين في ساحة الساعة في حمص وغيرها من المدن السورية، وفي مذبحة الأسلحة الكيماوية في الغوطة الشرقية، في تأسيس زمن التفكك، الذي أتى بسيوف المغول والفرنجة التي تريد هدم فلسطين وبلاد الشام وأرض الرافدين.
-6-
نون العراقين كشفت زيف تاريخ بُني على اكاذيب ما يطلق عليه المؤرخون اسم "المسألة الشرقية"، وخطابات الدفاع عن حقوق الإنسان.
وزير خارجية الدولة التي أطلق عليها الغباء الأقلوي اسم "الأم الحنون"، يدعو نصارى العراق إلى الهجرة الى فرنسا.
كل خطاب الدفاع عن الأقليات في زمن بدايات الأفول العثماني لم يكن سوى مبرر للغزو والاستعمار.
أما خطابات الأنجأة الذي انتجته المنظمات غير الحكومية (N.G.O.’s) برعاية أميركية وأوروبية فليس سوى كذبة نجحت في رشوة النخب والمثقفين، وشكلت عامل تكامل مع البترو- دولار الذي حطّم الاعلام ويريد وأد الثقافة في العالم العربي.
نحن وحدنا.
وحدنا في نون مواجهة الاحتلال والاستبداد، ووحدنا في نون الألم والحزن.
-7-
دموعنا جفت من شدة الألم.
لن نبكي على أطلال بلادنا.
لسنا مواطنين لأننا لم نرث أوطانا، فالوطن يصنعه المواطنون حين يذهبون الى آخر المعاناة، ويفقأون الصديد الذي يغطي أرواحهم ويقولون لا للاحتلال والاستبداد والقمع والطائفية والعنصرية.
نعود إلى البداية إلى الكلمة التي انبثقت من أديم الأرض، ونسكن في نون إنسان.
نون تتسع للجميع، وتحتضن الجميع لأنها مبللة بماء الأرض ومطر السماء.
أن أكون إنساناً أي أن أكون فلسطينياً.
وأكون فلسطينيا حين أرث ألم العالم كله، وأنسج منه معنى المعنى.
أن أكون إنساناً يعني أن يكون مضطهداً مع المضطهدين، وغريباً مع الغرباء، فأصير أيزيدياً وصابئياً ونصرانياً وسنياً وشيعياً وعلوياً ودرزياً وكردياً وأمازيغياً وعربياً أيضاً.
أكون كل هؤلاء كي أكون، وعندها استحق النون التي سمّتني إنساناً.
[تلبية لدعوة مركز التخطيط الفلسطيني، عاد كمال بُلّاطه من الولايات المتحدة في سنة 1974 الى بيروت ليساهم كمدير فني في تأسيس دار الفتى العربي. وفي أوقات فراغه عمل على سلسلة من التخطيطات الأولية بشأن حرف النون انظلاقا من كلمة "أنا/نحن"- "إنس" ومثناها "انسان". ولإضاءة بحثه الحروفي هذا في موضوع التثنية واعتبار كلمة انسان مذكّرا ومؤنثا في آن معا، كتب نصا بعنوان "منشور جنسياسي" نُشر بصحبة عينة من الرسوم في مجلة "مواقف" (العدد 28، صيف 1974). أما المختارات من التخطيطات التي ننشرها هنا، فظهرت أصلا ضمن روزنامة لسنة 1975، قام بنشرها مكتب الشرق الادنى المسكوني للمعلومات في بيروت مع مقدمة للمطران جورج خضر تكريما لمدينة القدس. وأضاف اليها بُّلّاطه تخطيطين جديدين هما "فلسطين" و"الناصرة". نشر النص في مجلة الدراسات الفلسطينية وتعيد جدلية نشره بالاتفاق مع الكاتب]
[رسوم: كمال بلاطة ]